قصة الداعيه عمرو خالد
عمرو خالد أبرز دعاة التدين الجديد
مما لا شك فيه أن هجمات 11 سبتمبر قد أثارت القلق الغربي الدفين مما يطلق عليه "تهديد الأصولية الإسلامية"؛ فارتباط منفذي العملية بهذا التيار بالإضافة إلى احتجاجات الشارع في الدول الإسلامية على الغزو الأمريكي لأفغانستان أثبت للجميع قوة هذا التيار.
وبالرغم من المكانة التي استطاع الإسلام السياسي الوصول لها بين شعوب العالم الإسلامي؛ فإن هذا المشهد بدأ في التغيير في السنوات الأخيرة؛ فهناك تحول من التركيز على فكرة "الحاكمية للإسلام" إلى التدين الشخصي والأخلاق في المعاملات اليومية، وهو تحول من فلسفة تستهدف الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة إلى استهداف الطبقات العليا في السلم الاجتماعي، وهذا التحول يجعل الإسلام ليس مشروعا سياسيا بقدر ما هو نشاط دعوي يهدف إلى الخلاص الذاتي.
الأسباب وراء هذا التحول شديدة التعقيد ولا مجال هنا لتفصيلها، لذلك سأقوم فقط بالإشارة إلى أهم الأحداث التي ساهمت في هذا التحول والتي تتمثل في أزمة الأنظمة السياسية الإسلامية (السودان وإيران)، وفشل المخططات الهادفة إلى التحول إلى الحكم الإسلامي عن طريق العنف (مصر والجزائر)، وأيضا ظهور رؤى جديدة تتعلق بالمشروع الإسلامي. كما أن سياسة العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني حولت أنظار الشعوب عن التركيز على مشكلاتهم القومية إلى قضايا تتعلق أكثر بالسياسة الخارجية والتهديدات القادمة من الخارج؛ الأمر الذي زاد بعد التحرك الأمريكي في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، كل هذه العوامل حولت الخطاب الإسلامي من مشروع سياسي قومي متكامل إلى خطاب أكثر تفككا، محدود بمستوى التحرك الفردي المتعلق بأخلاقيات الحياة اليومية.
وفي هذا المقال سأقوم بالتركيز على جانب واحد من هذا التحول في التيار الإسلامي في مصر، والمتمثل في تصاعد شعبية جيل جديد من الدعاة الإسلاميين، وبالتحديد ما يسمى حاليا في مصر بـ"ظاهرة عمرو خالد"، وهو الداعية الإسلامي الأكثر شعبية بعد الشيخ محمد متولي الشعراوي؛ فعمرو خالد يمثل هذا التحول في التيار الإسلامي إلى التركيز على تدين الأفراد، والاهتمام بالطقوس والنص في مقابل تهميش السياسة.
ويتميز هذا التيار الجديد باستهداف الطبقات الميسورة ماديا، وخصوصا الشباب والنساء منهم، ولقد جاء الشكل النهائي لهذا التيار الجديد نتيجة لاندماج ثقافة هذه الطبقة مع الأسلوب الدعوي البعيد عن السياسة. ونشأ كرد فعل للأزمة التي شهدها الإسلام السياسي، إضافة إلى الركود الشديد على الصعيدين السياسي والثقافي في مصر.
منذ عام 1990 تحول عمرو خالد من عمله الأساسي كمحاسب إلى داعية إسلامي، وظل نجمه يصعد حتى صار اسمه يتردد في معظم بيوت الطبقة فوق المتوسطة في القاهرة، وقد بدأ عمرو خالد سائرا على درب كل من الشيخ عمر عبد الكافي وخالد الجندي، إلا أنه استطاع أن يتفوق عليهما بشعبيته الكبيرة خاصة بين الشباب والنساء.
بدأ عمرو خالد يلقي محاضراته في المنازل والنوادي الاجتماعية، لكن موهبته الخطابية وأسلوبه الجذاب جعلا جمهوره يزيد، فبدأ يلقي الدروس في جامع الحصري بحي المهندسين (وهو أحد أحياء القاهرة الذي تقطنه الطبقة فوق المتوسطة)، لكن السلطات أرغمته على الانتقال إلى مدينة السادس من أكتوبر، وهي إحدى المدن الجديدة التي تقع على أطراف القاهرة، لكن ذلك لم يؤثر على شعبيته أو عدد الحضور في دروسه الأسبوعية، بل صارت تلك الدرس تمثل رحلة روحية لآلاف الشباب الذين كانوا يتجمهرون بسياراتهم حول المسجد قبل ساعات من بدء الدرس؛ حتى إنهم كانوا يتسببون في إحداث أزمة مرورية في المكان الذي يتميز بهدوئه عادة.
بحلول عام 1999 صار عمرو خالد يلقي 21 درسا أسبوعيا في منازل شخصيات مرموقة، وارتفع هذا العدد في رمضان ليصل إلى 99 درسا في الأسبوع الواحد، ولقد حققت شرائط الكاسيت المسجلة عليها دروس الداعية الإسلامي الشاب رقما قياسيا في مبيعات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2002، ولم يقتصر رواج هذه الشرائط على القاهرة وحدها بل صارت توزع في فلسطين وبيروت ودول الخليج.
تتردد شائعات أن عمرو خالد قرر السفر إلى بريطانيا لتحضير الدكتوراة بعد أن منعته السلطات المصرية من إلقاء دروسه في مصر، لكن بغض النظر عن صحة تلك المعلومات فإن الانتقال إلى بريطانيا لم يمنعه من الاستمرار في الوصول إلى جمهوره، فقد استمر في إلقاء الدروس عبر القنوات الفضائية وموقعه على الإنترنت، واستطاع الوصول برسالته للجماهير العربية وأيضا المسلمين الموجودين في أوربا.
يعترف "خالد الجندي" أنه يستهدف الطبقة فوق المتوسطة بشكل أساسي؛ لأن هذه الطبقة -في رأيه- هي طبقة "ذات سلطة وقدرة على التأثير"؛ ولذلك يذهب الداعية إليهم في بيوتهم أو في النوادي التي يترددون عليها أو الجوامع الموجودة في الأحياء الراقية التي تقطنها هذه الطبقة. أما عمرو خالد فيقوم إلى جانب الدروس المباشرة باستخدام مجموعة كبيرة من الوسائط الإعلامية تتمثل في القنوات الفضائية وقناة "اقرأ" والأوربت، وموقعه على الإنترنت وشرائط الكاسيت والفيديو، وهي وسائط تصل بشكل أكبر إلى الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة. ومن الوسائط أيضا المستخدمة في هذا المجال خط التليفون الذي خصصه خالد الجندي للرد على تساؤلات الجمهور والذي بدأ باستقبال 250 مكالمة يوميا حتى وصلت الآن إلى حوالي ألف مكالمة.
وينتقل عمرو خالد لإلقاء دروسه الدينية إلى حيث يقضي أبناء الطبقة المتوسطة الإجازة الصيفية في مناطق مثل العجمي والساحل الشمالي، وفي الآونة الأخيرة قام بعدة زيارات إلى دول الخليج حيث بدأت شهرته تتصاعد أيضا. وهو يحرص على اختيار أماكن تتميز بالطابع المبهج ليلقي بها دروسه، وذلك ليتماشى مع ذوق جمهوره الذي يتراوح عمره بين الـ15 والـ35 والذين لم يسبق لهم حضور دروس دينية تتميز بهذا الطابع الجذاب والمباشر.
ولا يكتفي عمرو خالد باختيار الأماكن التي تتناسب مع جمهوره؛ بل هو نفسه في مظهره يشبه هذا الجمهور؛ فبعجد لك كلمة غيرها لان هذه الكلمة محظورة شيوخ الأزهر يرتدي خالد الجينز أو البدلة وربطة العنق، وهو أيضا حليق الذقن.
وتقول عنه إحدى السيدات: "إن عمرو خالد هو الداعية الوحيد الذي يعرف كيف يتعامل مع احتياجاتنا النفسية؛ فهو يعرف كيف يريحنا نفسيا ويعاملنا كراشدين وليس مثل الأطفال".
وعلى العجد لك كلمة غيرها لان هذه الكلمة محظورة من الدعاة التقليديين استطاع عمرو خالد أن يحقق المعادلة الصعبة التي تجمع بين التدين والاستمتاع بالحياة العصرية، وذلك من خلال أسلوبه المتعاطف مع الشباب والمتفهم لمشاعرهم وطبيعة حياتهم، واستخدامه لغة بسيطة بالعامية؛ وذلك لتقديم رسالته التي تتعلق بأخلاقيات الحياة اليومية والموضوعات التي يمر بها الشباب في حياتهم العادية مثل العلاقات والمظهر البلوغ والمطاعم الفاخرة والحجاب والذنوب التي يقترفها الشباب خلال إجازة الصيف في مارينا؛ فهذا الداعية العصري يعمل بمثابة المعالج النفسي لمجتمع يعاني الكثير من الاضطرابات، وبعد الاستماع إليه يشعر الشاب بكثير من السلام مع النفس، ويخرج ما بداخله من مشاعر سيئة عن طريق البكاء عادة.
إن عمرو خالد وغيره من الدعاة العصريين يوصلون للشباب رسالة أنه بإمكانهم أن يصبحوا متدينين، وفي الوقت نفسه يمارسون حياتهم الطبيعية من عمل ودراسة وترفيه، كما يمكنهم أن يظهروا بمظهر عصري يشبه أبناء جيلهم، والأهم من ذلك أن كلمات خالد تؤكد للحاضرين أنه يمكن أن يكون متدينا ويحتفظ في الوقت نفسه بسلطته ومكانته الاجتماعية. فرسالته تعمل أساسا في وسط تسوده الثقافة الاستهلاكية؛ حيث لا محالة من خلق تناغم بين قيم الدين والمكانة في المجتمع. إن هذا النوع من الدعوة يشبه في ذلك اتجاه الكنيسة المثودية في أمريكا والتي يتبعها الأغنياء في الأساس؛ لأنه يمكنهم في ظلها الجمع ببساطة بين الإيمان والثروة وهذا ما يفعله خالد: يجعل الأغنياء يشعرون بالرضا عن ثرواتهم.
لكن هذا لا يعني أن هذا النوع الجديد من الدعاة لا يهدف إلى إحداث تغيير؛ بل على العجد لك كلمة غيرها لان هذه الكلمة محظورة فهم يستخدمون قدراتهم الإقناعية القوية لإحداث نوع من التغيير الشكلي في حياة جمهورهم؛ فعلى سبيل المثال يوجهون النساء لارتداء الحجاب عن طريق نصائح تتضمن خطوات عملية تدريجية، ولا يمضي وقت طويل على أغلب الفتيات والنساء بعد متابعتهن للدروس حتى يرتدين الحجاب أو حتى النقاب، إلا أن عمرو خالد لا يصر على مسألة النقاب. أما خالد الجندي فقد استطاع إقناع عدد من نجمات السينما أن يرتدين الحجاب. كما يستطيع الجندي إقناع الشباب الصلاة بانتظام وفي الجامع بقدر الإمكان، وتبدأ حياة هؤلاء الشباب تدريجيا في اتخاذ شكل خاص يتميز بالالتزام الديني.
وبالطبع الدين ليس جديدا على المصريين بما فيهم الشباب من الطبقات الميسورة الحال إنما الجديد، منذ بداية التسعينيات في أوساط الطبقة فوق المتوسطة -خاصة الشباب والنساء- هو التحول إلى بحث دائم في الدين؛ مما يظهر بشكل هوية دينية محددة يلتزم بها الشخص ويدعو غيره إلى اتباعها.
عمرو خالد ليس عالم دين ولا يفسر القرآن أو يصدر الفتاوى، وإنما يعمل على تصحيح القيم الأخلاقية لدى الأفراد فيما يتعلق بسلوكياتهم اليومية؛ فهو يتحدث عن قيم مثل التواضع والكرم والثقة والأمانة والرجوع إلى الحق، ولا يمكن اعتباره مفكرا ليبراليا أو تحرريا؛ فأفكاره تقليدية ومحافظة، وبالرغم من اعتماده على التعاطف والوضوح والارتباط بالواقع فإنه ينقصه التجديد والتميز والفاعلية.
وبالرغم من أسلوبه المتكرر فإن جوهر أفكاره مرتكز على التقليدية بشكل كبير، ولا يعتمد على إعمال العقل النقدي في تفسير النص. ولنأخذ على سبيل المثال رأيه في قضية الحجاب. يقول عمرو خالد: إن استقامة المجتمع أساسها استقامة المرأة، واستقامة المرأة أساسها الحجاب؛ لأن امرأة واحدة قادرة على إغواء مائة رجل في حين أن مائة رجل ليس بإمكانهم غواية امرأة واحدة. وبالتالي وبناء على هذا المنطق فالحجاب من الرأس إلى القدمين هو فريضة على كل مسلمة، أما المرأة التي تقول إنها غير مقتنعة بهذا، فهي لا تعد مسلمة أصلا؛ لأن الإسلام بمعناه الحرفي -كما يرى عمرو خالد- يعني الطاعة العمياء، "حتى إذا لم تفهم فيجب أن تنفذ"، وهو بذلك لا يدع مجالا للتأويل؛ لأن المسألة بالنسبة له واضحة تماما.
ولا يختلف عمرو خالد من وجهة النظر عن أي شيخ من شيوخ الأزهر، وبالرغم من ذلك فإن شيوخ الأزهر يتخذون منه موقفا ربما بسبب شعبيته التي فاقتهم جميعا. لكن يظل مكن اعتباره أحد المجددين -وإن اقتصر هذا التجديد على الشكل فحسب- في ظل مناخ لا يحظى فيه التفكير الديني بالكثير من التجديد (وذلك بشهادة مفكرين إسلاميين من أمثال يوسف القرضاوي وسليم العوا وعصام العريان).
هذا الإقبال الذي يشهده عمرو خالد وأمثاله من الدعاة العصريين هو نتاج طبيعي للعقلية المصرية التي نشأت في ظل نظام تعليمي يعتمد على الحفظ، وتجزيء المعرفة، وتقديس الكلمات المطبوعة، ويؤكد فكرة تأليه الأشخاص.
وقد يبدو عمرو خالد بأسلوبه المتعاطف اللطيف رجلا يؤمن بالديمقراطية والحرية، إلا أن هذا فقط بالمقارنة بأسلوب شيوخ الأزهر. وبالنسبة للشباب الذين اعتادوا على التعلم بدون بذل جهد في إعمال العقل أو البحث عن المعرفة، ومن ثم تدريبهم ليصبح من السهل نقيادهم.. بالنسبة لهؤلاء فإن عمرو خالد يعتبر المصدر الأمثل للحكمة، وهو في ذلك لا يختلف كثيرا عن جورج قرداحي (مقدم البرنامج الشهير "من سيربح المليون؟") والذي يشعر الناس أنهم يحصلون منه على المعرفة؛ فالسبب الذي يردده جميع الشباب المعجبين بعمرو خالد وراء هذا الإعجاب: "إنه سهل الفهم".
إن هذا التيار الجديد من الدعوة ظهر ليوفِّي بمتطلبات الشباب الذين ينفتحون أكثر فأكثر على الثقافة الغربية؛ فهذا الشباب الممتلئ بالأفكار المختلفة غير المتناغمة أنتج هذه الثقافة الجديدة من التدين، التي تعبر عن نفسها من خلال تجديد في الأسلوب والذوق واللغة والرسالة. فهو شباب متدين لكنه غير متوائم مع الإسلام السياسي -هذا إن كان قد سمع به أصلا- إنه شباب متأرجح ما بين "عمرو دياب" و"عمرو خالد"، ما بين الحفلات الصاخبة والصلاة، وهو في الوقت نفسه يشعر بالقهر الاجتماعي، ونشأ في مجتمع يكبت الفردية والتجديد.
يمكن القول إذن: إن الشباب هو الذي خلق لنفسه هذه الثقافة الدينية الجديدة التي تتمحور حول ظاهرة عمرو خالد كنوع من "الموضة"؛ فهي منفذ للتنفيث عن احتياجات إنسانية متناقضة: احتياجات للتغيير والتأقلم، للتميز عن الآخر والتشابه معه، للتفرد والالتزام بالمعايير الاجتماعية، وبالتالي فإن التمسك بهذا النوع من التدين الإيجابي يسمح للشباب بأن يحافظ لنفسه على هوية تميزه، وفي الوقت نفسه يتعامل مع التغيير الحادث من حوله، وهو إذ يفعل ذلك يتحرك في إطار المعايير الاجتماعية ولا يضطر إلى خرقها.
وأخيرا يمكن القول: إنه في المشهد المصري حيث تراجعت التنظيمات الإسلامية، وتعاني التيارات الثقافية من الجمود، والحياة السياسية من الانغلاق؛ فإن عمرو خالد وغيره من الدعاة الذين ساروا على نفس الدرب استطاعوا أن يأخذوا دعوتهم إلى عتبات منازل جمهورهم، وهم بذلك جعلوا من أنفسهم أحد محفزات التغيير التدريجي في موقف الإسلام السياسي في مصر.